سورة الإسراء - تفسير تفسير الرازي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الإسراء)


        


{وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}
اعلم أن هذا هو النوع الثاني من الأشياء التي نهى الله عنها في هذه الآيات وفيه مسائل:
المسألة الأولى: المرح شدة الفرح يقال: مرح يمرح مرحاً فهو مرح، والمراد من الآية النهي عن أن يمشي الإنسان مشياً يدل على الكبرياء والعظمة.
قال الزجاج: لا تمش في الأرض مختالاً فخوراً ونظيره قوله تعالى في سورة الفرقان: {وَعِبَادُ الرحمن الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً} [الفرقان: 63] وقال في سورة لقمان: {واقصد فِي مَشْيِكَ واغضض مِن صَوْتِكَ} [لقمان: 19] وقال أيضاً فيها: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [لقمان: 18].
المسألة الثانية: قال الأخفش: ولو قرئ: {مَرَحاً} بالكسر كان أحسن في القراءة.
قال الزجاج: مرحاً مصدر ومرحاً اسم الفاعل وكلاهما جائز، إلا أن المصدر أحسن هاهنا وأوكد، تقول جاء زيد ركضاً وراكضاً فركضاً أوكد لأنه يدل على توكيد الفعل، ثم إنه تعالى أكد النهي عن الخيلاء والتكبر فقال: {إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً} والمراد من الخرق هاهنا نقب الأرض، ثم ذكروا فيه وجوهاً: الأول: أن المشي إنما يتم بالارتفاع والانخفاض فكأنه قيل: إنك حال الانخفاض لا تقدر على خرق الأرض ونقبها، وحال الارتفاع لا تقدر على أن تصل إلى رؤوس الجبال، والمراد التنبيه على كونه ضعيفاً عاجزاً فلا يليق به التكبر.
الثاني: المراد منه أن تحتك الأرض التي لا تقدر على خرقها. وفوقك الجبال التي لا تقدر على الوصول إليها فأنت محاط بك من فوقك وتحتك بنوعين من الجماد، وأنت أضعف منهما بكثير، والضعيف المحصور لا يليق به التكبر فكأنه قيل له: تواضع ولا تتكبر فإنك خلق ضعيف من خلق الله المحصور بين حجارة وتراب فلا تفعل فعل المقتدر القوي:
ثم قال تعالى: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ عِنْدَ رَبّكَ مَكْرُوهًا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى: الأكثرون قرؤا {سيئة} بضم الهاء والهمزة وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو {سيئة} منصوبة أما وجه قراءة الأكثرين فظاهر من وجهين:
الوجه الأول: قال الحسن: إنه تعالى ذكر قبل هذا أشياء أمر ببعضها ونهى عن بعضها، فلو حكم على الكل بكونه سيئة لزم كون المأمور به سيئة وذلك لا يجوز، أما إذا قرأناه بالإضافة كان المعنى أن ما كان من تلك الأشياء المذكورة سيئة فهو مكروه عند الله واستقام الكلام.
والوجه الثاني: أنا لو حكمنا على كل ما تقدم ذكره بكونه سيئة لوجب أن يقال: إنها مكروهة وليس الأمر كذلك لأنه تعالى قال: {مَكْرُوهًا} أما إذا قرأناه بصيغة الإضافة كان المعنى أن سيئ تلك الأقسام يكون مكروهاً، وحينئذ يستقيم الكلام.
أما قراءة نافع وابن كثير وأبي عمرو: فيها وجوه:
الأول: أن الكلام، تم عند قوله: {ذلك خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [الإسراء: 35] ثم ابتدأ وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا} [الإسراء: 37].
ثم قال: {كُلُّ ذلك كَانَ سَيّئُهُ} والمراد هذه الأشياء الأخيرة التي نهى الله عنها.
والثاني: أن المراد بقوله: {كُلُّ ذلك} أي كل ما نهى الله عنه فيما تقدم.
وأما قوله: {مَكْرُوهًا} فذكروا في تصحيحه على هذه القراءة وجوهاً: الأول: التقدير: كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً.
الثاني: قال صاحب الكشاف: السيئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب والإثم زال عنه حكم الصفات فلا اعتبار بتأنيثه، ولا فرق بين من قرأ سيئة ومن قرأ سيئه. ألا ترى أنك تقول: الزنا سيئة كما تقول السرقة سيئة، فلا تفرق بين إسنادها إلى مذكر ومؤنث.
الثالث: فيه تقديم وتأخير، والتقدير: كل ذلك كان مكروهاً وسيئة عند ربك.
الرابع: أنه محمول على المعنى لأن السيئة هي الذنب وهو مذكر.
المسألة الثانية: قال القاضي: دلت هذه الآية على أن هذه الأعمال مكروهة عند الله تعالى، والمكروه لا يكون مراداً له، فهذه الأعمال غير مرادة لله تعالى فبطل قول من يقول: كل ما دخل في الوجود فهو مراد لله تعالى. وإذا ثبت أنها ليست بإرادة الله تعالى وجب أن لا تكون مخلوقة له لأنها لو كانت مخلوقة لله تعالى لكانت مرادة له لا يقال: المراد من كونها مكروهة أن الله تعالى نهى عنها، وأيضاً معنى كونها مكروهة أن الله تعالى كره وقوعها وعلى هذا التقدير فهذا لا يمنع أن الله تعالى أراد وجودها، لأن الجواب عن الأول أنه عدول عن الظاهر، وأيضاً فكونها سيئة عند ربك يدل على كونها منهياً عنها فلو حملنا المكروه على النهي لزم التكرار.
والجواب عن الثاني: أنه تعالى إنما ذكر هذه الآية في معرض الزجر عن هذه الأفعال، ولا يليق بهذا الموضع أن يقال: إنه يكره وقوعها هذا تمام هذا الاستدلال.
والجواب: أن المراد من المكروه المنهي عنه ولا بأس بالتكرير لأجل التأكيد، والله أعلم.
المسألة الثالثة: قال القاضي: دلت هذه الآية على أنه تعالى كما أنه موصوف بكونه مريداً فكذلك أيضاً موصوف بكونه كارهاً.
وقال أصحابنا: الكراهية في حقه تعالى محمولة إما على النهي أو على إرادة العدم، والله أعلم.


{ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)}
اعلم أنه تعالى جمع في هذه الآية خمسة وعشرين نوعاً من التكاليف. فأولها: قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} [الإسراء: 22] وقوله: {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه} [الإسراء: 23] مشتمل على تكليفين: الأمر بعبادة الله تعالى، والنهي عن عبادة غير الله، فكان المجموع ثلاثة. وقوله: {وبالوالدين إحسانا} [الإسراء: 23] هو الرابع، ثم ذكر في شرح ذلك الإحسان خمسة أخرى وهي: قوله: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة وَقُل رَّبّ ارحمهما} [الإسراء: 23، 24] فيكون المجموع تسعة، ثم قال: {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل} وهو ثلاثة فيكون المجموع إثني عشر. ثم قال: {وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا} [الإسراء: 26] فيصير ثلاثة عشر. ثم قال: {وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابتغاء رَحْمَةٍ مّن رَّبّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُورًا} وهو الرابع عشر ثم قال: {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ} [الإسراء: 28، 29] إلى آخر الآية وهو الخامس عشر، ثم قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ} [الإسراء: 31] وهو السادس عشر، ثم قال: {وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التى حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق} وهو السابع عشر ثم قال: {وَمَن قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيّهِ سلطانا} وهو الثامن عشر، ثم قال: {فَلاَ يُسْرِف فّى القتل} [الإسراء: 33] وهو التاسع عشر، ثم قال: {وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ} [الإسراء: 34] وهو العشرون. ثم قال: {وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ} وهو الحادي والعشرون، ثم قال: {وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم} [الإسراء: 35] وهو الثاني والعشرون، ثم قال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء: 36] وهو الثالث والعشرون، ثم قال: {وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحًا} [الإسراء: 37] وهو الرابع والعشرون، ثم قال: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} وهو الخامس والعشرون، فهذه خمسة وعشرون نوعاً من التكاليف بعضها أوامر وبعضها نواه جمعها الله تعالى في هذه الآيات وجعل فاتحتها قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَّخْذُولاً} [الإسراء: 22] وخاتمتها قوله: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا} إذا عرفت هذا فنقول: هاهنا فوائد:
الفائدة الأولى: قوله: {ذلك} إشارة إلى كل ما تقدم ذكره من التكاليف وسماها حكمة، وإنما سماها بهذا الاسم لوجوه:
أحدها: أن حاصلها يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع الطاعات والخيرات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة، والعقول تدل على صحتها. فالأتي بمثل هذه الشريعة لا يكون داعياً إلى دين الشيطان بل الفطرة الأصلية تشهد بأنه يكون داعياً إلى دين الرحمن، وتمام تقرير هذا ما نذكره في سورة الشعراء في قوله: {هَلْ أُنَبّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين * تَنَزَّلُ على كُلّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ} [الشعراء: 221، 222].
وثانيها: أن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل ولا تقبل النسخ والإبطال، فكانت محكمة وحمكة من هذا الاعتبار.
وثالثها: أن الحكمة عبارة عن معرفة الحق لذاته والخير لأجل العمل به، فالأمر بالتوحيد عبارة عن القسم الأول وسائر التكاليف عبارة عن تعليم الخيرات حتى يواظب الإنسان عليها ولا ينحرف عنها، فثبت أن هذه الأشياء المذكورة في هذه الآيات عين الحكمة، وعن ابن عباس: أن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه الصلاة والسلام: أولها: {وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها ءاخَرَ} [الإسراء: 22] قال تعالى: {وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلّ شَيْء مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لّكُلّ شَيْء} [الأعراف: 145].
والفائدة الثانية: من فوائد هذه الآية أنه تعالى بدأ في هذه التكاليف بالأمر بالتوحيد، والنهي عن الشرك وختمها بعين هذا المعنى، والمقصود منه التنبيه على أن أول كل عمل وقول وفكر وذكر يجب أن يكون ذكر التوحيد، وآخره يجب أن يكون ذكر التوحيد، تنبيهاً على أن المقصود من جميع التكاليف هو معرفة التوحيد والاستغراق فيه، فهذا التكرير حسن موقعه لهذه الفائدة العظيمة ثم إنه تعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يوجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً، وذكر في الآية الأخيرة أن الشرك يوجب أن يلقي صاحبه في جهنم ملوماً مدحوراً، فاللوم والخذلان يحصل في الدنيا، وإلقاؤه في جهنم يحصل يوم القيامة ويجب علينا أن نذكر الفرق بين المذموم المخذول، وبين الملوم المدحور. فنقول: أما الفرق بين المذموم وبين الملوم، فهو أن كونه مذموماً معناه: أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر، فهذا معنى كونه مذموماً، وإذا ذكر له ذلك فبعد ذلك يقال له لم فعلت مثل هذا الفعل، وما الذي حملك عليه، وما استفدت من هذا العمل إلا إلحاق الضرر بنفسك، وهذا هو اللوم. فثبت أن أول الأمر هو أن يصير مذموماً، وآخره أن يصير ملوماً، وأما الفرق بين المخذول وبين المدحور فهو أن المخذول عبارة عن الضعيف يقال: تخاذلت أعضاؤه أي ضعفت، وأما المدحور فهو المطرود. والطرد عبارة عن الاستخفاف والإهانة قال تعالى: {وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً} [الفرقان: 69] فكونه مخذولاً عبارة عن ترك إعانته وتفويضه إلى نفسه، وكونه مدحوراً عبارة عن إهانته والاستخفاف به، فثبت أن أول الأمر أن يصير مخذولاً، وآخره أن يصير مدحوراً، والله أعلم بمراده.
وأما قوله: {أفأصفاكم رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملئكة إِنَاثًا} فاعلم أنه تعالى لما نبه على فساد طريقة من أثبت لله شريكاً ونظيراً نبه على طريقة من أثبت له الولد وعلى كمال جهل هذه الفرقة، وهي أنهم اعتقدوا أن الولد قسمان؛ فأشرف القسمين البنون، وأخسهما البنات. ثم إنهم أثبتوا البنين لأنفسهم مع علمهم بنهاية عجزهم ونقصهم وأثبتوا البنات لله مع علمهم بأن الله تعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له والجلال الذي لا غاية له، وذلك يدل على نهاية جهل القائل بهذا القول ونظيره قوله تعالى: {أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون} [الطور: 39] وقوله: {أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى} [النجم: 21] وقوله: {أفأصفاكم} يقال أصفاه بالشيء إذا آثر به، ويقال للضياع التي يستخصها السلطان بخاصية الصوافي.
قال أبو عبيدة في قوله: {أفأصفاكم} أفخصكم، وقال المفضل: أخلصكم.
قال النحويون هذه الهمزة همزة تدل على الإنكار على صيغة السؤال عن مذهب ظاهر الفساد لا جواب لصاحبه إلا بما فيه أعظم الفضيحة.
ثم قال تعالى: {إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيمًا} وبيان هذا التعظيم من وجهين:
الأول: أن إثبات الولد يقتضي كونه تعالى مركباً من الأجزاء والأبعاض، وذلك يقدح في كونه قديماً واجب الوجود لذاته. وذلك عظيم من القول ومنكر من الكلام.
والثاني: أن بتقدير ثبوت الولد فقد جعلتم أشرف القسمين لأنفسكم وأخس القسمين لله.
وهذا أيضاً جهل عظيم.


{وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)}
اعلم أن التصريف في اللغة عبارة عن صرف الشيء من جهة إلى جهة، نحو تصريف الرياح وتصريف الأمور هذا هو الأصل في اللغة، ثم جعل لفظ التصريف كناية عن التبيين، لأن من حاول بيان شيء فإنه يصرف كلامه من نوع إلى نوع آخر ومن مثال إلى مثال آخر ليكمل الإيضاح ويقوي البيان فقوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا} أي بينا ومفعول التصريف محذوف وفيه وجوه:
أحدها: ولقد صرفنا في هذا القرآن ضروباً من كل مثل.
وثانيها: أن تكون لفظة في زائدة كقوله: {وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرّيَّتِى} [الأحقاف: 15] أي أصلح لي ذريتي.
أما قوله: {لّيَذْكُرُواْ} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: قرأ الجمهور {لّيَذْكُرُواْ} بفتح الذال والكاف وتشديدهما، والمعنى: ليتذكروا فأدغمت التاء في الذال لقرب مخرجيهما، وقرأ حمزة والكسائي {ليذكروا} ساكنة الذال مضمومة الكاف، وفي سورة الفرقان مثله من الذكر قال الواحدي: والتذكر هاهنا أشبه من الذكر، لأن المراد منه التدبر والتفكر، وليس المراد منه الذكر الذي يحصل بعد النسيان. ثم قال: وأما قراءة حمزة والكسائي ففيها وجهان:
الأول: أن الذكر قد جاء بمعنى التأمل والتدبر كقوله تعالى: {خُذُواْ مَا ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ} [البقرة: 63] والمعنى: وافهموا ما فيه.
والثاني: أن يكون المعنى صرفنا هذه الدلائل في هذا القرآن ليذكروه بألسنتهم فإن الذكر باللسان قد يؤدي إلى تأثر القلب بمعناه.
المسألة الثانية: قال الجبائي: قوله: {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هذا القرءان لِيَذَّكَّرُواْ} يدل على أنه تعالى إنما أنزل هذا القرآن، وإنما أكثر فيه من ذكر الدلائل لأنه تعالى أراد منهم فهمها والإيمان بها، وهذا يدل على أنه تعالى يفعل أفعاله لأغراض حكمية، ويدل على أنه تعالى أراد الإيمان من الكل سواء آمنوا أو كفروا، والله أعلم.
ثم قال تعالى: {وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُورًا} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: قال الأصم: شبههم بالدواب النافرة، أي ما ازدادوا من الحق إلا بعداً وهو كقوله: {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا} [التوبة: 125].
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أنه تعالى ما أراد الإيمان من الكفار، وقالوا: إنه تعالى عالم بأن تصريف القرآن لا يزيدهم إلا نفوراً، فلو أراد الإيمان منهم لما أنزل عليهم ما يزيدهم نفرة ونبوة عنه، لأن الحكيم إذا أراد تحصيل أمر من الأمور وعلم أن الفعل الفلاني يصير سبباً لمزيد النفرة والنبوة عنه، فإنه عندما يحاول تحصيل ذلك المقصود يحترز عما يوجب مزيد النفرة والنبوة.
فلما أخبر تعالى أن هذا التصريف يزيدهم نفوراً، علمنا أنه ما أراد الإيمان منهم، والله أعلم.
أما قوله تعالى: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} ففيه مسألتان:
المسألة الأولى: في تفسيره وجهان:
الوجه الأول: أن المراد من قوله: {إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} هو أنا لو فرضنا وجود آلهة مع الله تعالى لغلب بعضهم بعضاً، وحاصله يرجع إلى دليل التمانع وقد شرحناه في سورة الأنبياء في تفسير قوله: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا الِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فلا فائدة في الإعادة.
الوجه الثاني: أن الكفار كانوا يقولون {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر: 3]، فقال الله لو كانت هذه الأصنام كما تقولون من أنها تقربكم إلى الله زلفى لطلبت لأنفسها أيضاً قربة إلى الله تعالى وسبيلاً إليه ولطلبت لأنفسها المراتب العالية، والدرجات الشريفة من الأحوال الرفيعة، فلما لم تقدر أن تتخذ لأنفسها سبيلاً إلى الله فكيف يعقل أن تقربكم إلى الله.
المسألة الثانية: قرأ ابن كثير {كما يقولون} و{عما يقولون} و{يسبح} بالياء في هذه الثلاثة، والمعنى كما يقول المشركون من إثبات الآلهة من دونه فهو مثل قوله: {قُلْ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ} [آل عمران: 12] وقرأ حمزة والكسائي كلها بالتاء، وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم في الأول بالتاء على الخطاب، وفي الثاني والثالث بالياء على الحكاية، وقرأ حفص عن عاصم الأولين بالياء، والأخير بالتاء، وقرأ أبو عمرو الأول والأخير بالتاء والأوسط بالياء.
ثم قال تعالى: {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّا كَبِيرًا} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: لما أقام الدليل القاطع على كونه منزهاً عن الشركاء. وعلى أن القول بإثبات الآلهة قول باطل، أردفه بما يدل على تنزيهه عن هذا القول الباطل فقال: {سبحانه} وقد ذكرنا أن التسبيح عبارة عن تنزيه الله تعالى عما لا يليق به، ثم قال: {وتعالى} والمراد من هذا التعالي الارتفاع وهو العلو، وظاهر أن المراد من هذا التعالي ليس هو التعالي في المكان والجهة، لأن التعالي عن الشريك والنظير والنقائص والآفات لا يمكن تفسيره بالتعالي بالمكان والجهة، فعلمنا أن لفظ التعالي في حق الله تعالى غير مفسر بالعلو بحسب المكان والجهة.
المسألة الثانية: جعل العلو مصدر التعالي فقال تعالى: {عُلُوّاً كَبِيراً} وكان يجب أن يقال تعالى تعالياً كبيراً إلا أن نظيره قوله تعالى: {والله أَنبَتَكُمْ مّنَ الأرض نَبَاتاً} [نوح: 17].
فإن قيل: ما الفائدة في وصف ذلك العلو بالكبير؟
قلنا: لأن المنافاة بين ذاته وصفاته سبحانه وبين ثبوت الصاحبة والولد والشركاء والأضداد والأنداد منافاة بلغت في القوة والكمال إلى حيث لا تعقل الزيادة عليها، لأن المنافاة بين الواجب لذاته والممكن لذاته، وبين القديم والمحدث، وبين الغني والمحتاج منافاة لا تعقل الزيادة عليها فلهذا السبب وصف الله تعالى ذلك العلو بالكبير.
ثم قال تعالى: {تُسَبّحُ لَهُ السموات والأرض وَمَن فِيهِنَّ} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: اعلم أن الحي المكلف يسبح لله بوجهين:
الأول: بالقول كقوله باللسان سبحان الله.
والثاني: بدلالة أحواله على توحيد الله تعالى وتقديسه وعزته، فأما الذي لا يكون مكلفاً مثل البهائم، ومن لا يكون حياً مثل الجمادات فهي إنما تسبح لله تعالى بالطريق الثاني، لأن التسبيح بالطريق الأول لا يحصل إلا مع الفهم والعلم والإدراك والنطق وكل ذلك في الجماد محال، فلم يبق حصول التسبيح في حقه إلا بالطريق الثاني.
واعلم أنا لو جوزنا في الجماد أن يكون عالماً متكلماً لعجزنا عن الاستدلال بكونه تعالى عالماً قادراً على كونه حياً وحينئذ يفسد علينا باب العلم بكونه حياً وذلك كفر فإنه يقال: إذا جاز في الجمادات أن تكون عالمة بذات الله تعالى وصفاته وتسبحه مع أنها ليست بأحياء فحينئذ لا يلزم من كون الشيء عالماً قادراً متكلماً كونه حياً فلم يلزم من كونه تعالى عالماً قادراً كونه حياً وذلك جهل وكفر، لأن من المعلوم بالضرورة أن من ليس بحي لم يكن عالماً قادراً متكلماً، هذا هو القول الذي أطبق العلماء المحققون عليه، ومن الناس من قال: إن الجمادات وأنواع النبات والحيوان كلها تسبح الله تعالى، واحتجوا على صحة قولهم بأن قالوا: دل هذا النص على كونها مسبحة لله تعالى ولا يمكن تفسير هذا التسبيح بكونها دلائل على كمال قدرة الله تعالى وحكمته لأنه تعالى قال: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} فهذا يقتضي أن تسبيح هذه الأشياء غير معلوم لنا. ودلالتها على وجود قدرة الله وحكمته معلوم، والمعلوم مغاير لما هو غير معلوم فدل على أنها تسبح الله تعالى وأن تسبيحها غير معلوم لنا، فوجب أن يكون التسبيح المذكور في هذه الآية مغايراً لكونها دالة على وجود قدرة الله تعالى وحكمته.
والجواب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أنك إذا أخذت تفاحة واحدة فتلك التفاحة مركبة من عدد كثير من الأجزاء التي لا تتجزأ، وكل واحد من تلك الأجزاء دليل تام مستقل على وجود الإله، ولكل واحد من تلك الأجزاء التي لا تتجزأ صفات مخصوصة من الطبع والطعم واللون والرائحة والحيز والجهة، واختصاص ذلك الجوهر الفرد بتلك الصفة المعينة من الجائزات فلا يحصل ذلك الاختصاص إلا بتخصيص مخصص قادر حكيم.
إذا عرفت هذا فقد ظهر أن كل واحد من أجزاء تلك التفاحة دليل تام على وجود الإله وكل صفة من الصفات القائمة بذلك الجزء الواحد فهو أيضاً دليل تام على وجود الإله تعالى، ثم عدد تلك الأجزاء غير معلوم، وأحوال تلك الصفات غير معلومة، فلهذا المعنى قال تعالى: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
والوجه الثاني: هو أن الكفار وإن كانوا يقرون بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا يتفكرون في أنواع الدلائل، ولهذا المعنى قال تعالى: {وَكَأَيّن مِن ءايَةٍ فِي السموات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ} [يوسف: 105] فكان المراد من قوله: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} هذا المعنى.
والوجه الثالث: أن القوم وإن كانوا مقرين بألسنتهم بإثبات إله العالم إلا أنهم ما كانوا عالمين بكمال قدرته. ولذلك فإنهم استبعدوا كونه تعالى قادراً على الحشر والنشر فكان المراد ذلك. وأيضاً فإنه تعالى قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: {قُلْ لَّوْ كَانَ مَعَهُ ءالِهَةٌ كَمَا تَقُولُونَ إِذًا لاَّبْتَغَوْاْ إلى ذِي العرش سَبِيلاً} فهم ما كانوا عالمين بهذا الدليل فلما ذكر هذا الدليل قال: {تُسَبّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} فتسبيح السموات والأرض ومن فيهن يشهد بصحة هذا الدليل وقوته وأنتم لا تفقهون هذا الدليل ولا تعرفونه، بل نقول: إن القوم كانوا غافلين عن أكثر دلائل التوحيد والعدل، والنبوة والمعاد، فكان المراد من قوله: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} ذلك ومما يدل على أن الأمر كما ذكرناه قوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} فذكر الحليم والغفور هاهنا يدل على أن كونهم بحيث لا يفقهون ذلك التسبيح جرم عظيم صدر عنهم وهذا إنما يكون جرماً إذا كان المراد من ذلك التسبيح كونها دالة على كمال قدرة الله تعالى وحكمته، ثم إنهم لغفلتهم وجهلهم ما عرفوا وجه دلالة تلك الدلائل.
أما لو حملنا هذا التسبيح على أن هذه الجمادات تسبح الله بأقوالها وألفاظها لم يكن عدم الفقه لتلك التسبيحات جرماً ولا ذنباً، وإذا لم يكن ذلك جرماً ولا ذنباً لم يكن قوله: {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} لائقاً بهذا الموضع، فهذا وجه قوي في نصرة القول الذي اخترناه.
واعلم أن القائلين بأن هذه الجمادات والحيوانات تسبح الله بألفاظها أضافوا إلى كل حيوان نوعاً آخر من التسبيح.
وقالوا: إنها إذا ذبحت لم تسبح مع أنهم يقولون إن الجمادات تسبح الله، فإذا كان كونه جماداً لا يمنع من كونه مسبحاً، فكيف صار ذبح الحيوان مانعاً له من التسبيح، وقالوا أيضاً: إن غصن الشجرة إذا كسر لم يسبح، وإذا كان كونه جماداً لم يمنع من كونه مسبحاً فكسره كيف يمنع من ذلك، فعلم أن هذه الكلمات ضعيفة، والله أعلم.
المسألة الثانية: قوله: {تُسَبّحُ لَهُ السموات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ} تصريح بإضافة التسبيح إلى السموات والأرض وإلى المكلفين الحاصلين فيهن وقد دللنا على أن التسبيح المضاف إلى الجمادات ليس إلا بمعنى الدلالة على تنزيه الله تعالى وإطلاق لفظ التسبيح على هذا المعنى مجاز، وأما التسبيح الصادر عن المكلفين وهو قولهم: سبحان الله، فهذا حقيقة، فيلزم أن يكون قوله: {تُسَبّحُ} لفظاً واحداً قد استعمل في الحقيقة والمجاز معاً، وأنه باطل على ما ثبت دليله في أصول الفقه، فالأولى أن يحمل هذا التسبيح على الوجه المجازي في حق الجمادات لا في حق العقلاء لئلا يلزم ذلك المحذور، والله أعلم.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11